فصل: باب قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ أَزِفَتْ الْآزِفَةُ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ

صباحاً 9 :52
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ أَزِفَتْ الْآزِفَةُ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إن زلزلة الساعة شيء عظيم‏)‏ أشار بهذه الترجمة إلى ما وقع في بعض طرق الحديث الأول أنه صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية عند ذكر الحديث والزلزلة الاضطراب وأصله من الزلل وفي تكرير الزاي فيه تنبيه على ذلك‏.‏

والساعة في الأصل جزء من الزمان واستعيرت ليوم القيامة كما تقدم في ‏"‏ باب سكرات الموت ‏"‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى الساعة الوقت الذي تقوم فيه القيامة إشارة إلى أنها ساعة خفيفة يقع فيها أمر عظيم وقيل سميت ساعة لوقوعها بغتة أو لطولها أو لسرعة الحساب فيها أو لأنها عند الله خفيفة مع طولها على الناس‏.‏

قوله ‏(‏أزفت الآزفة‏:‏ اقتربت الساعة‏)‏ هو من الأزف بفتح الزاي وهو القرب يقال أزف كذا أي قرب وسميت الساعة آزفة لقربها أو لضيق وقتها واتفق المفسرون على أن معنى أزفت اقتربت أو دنت‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ يَا آدَمُ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ قَالَ يَقُولُ أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ قَالَ وَمَا بَعْثُ النَّارِ قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ قَالَ أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا وَمِنْكُمْ رَجُلٌ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الْأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ أَوْ الرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏جرير‏)‏ هو ابن عبد الحميد‏.‏

قوله ‏(‏عن الأعمش عن أبي صالح‏)‏ في رواية أبي أسامة في بدء الخلق وحفص بن غياث في تفسير سورة الحج كلاهما ‏"‏ عن الأعمش حدثنا أبو صالح ‏"‏ وهو ذكوان وأبو سعيد هو الخدري‏.‏

قوله ‏(‏يقول الله‏)‏ كذا وقع للأكثر غير مرفوع وبه جزم أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ وفي رواية كريمه بإثبات قوله ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وكذا وقع لمسلم عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير بسند البخاري فيه ونحوه في رواية أبي أسامة وحفص وقد ظهر من حديث أبي هريرة الذي قبله أن خطاب آدم بذلك أول شيء يقع يوم القيامة ولفظه ‏"‏ أول من يدعي يوم القيامة آدم عليه السلام فتراءى ذريته ‏"‏ بمثناة واحدة ومد ثم همزة مفتوحة ممالة وأصله فتتراءى فحذفت إحدى التاءين وتراءى الشخصان تقابلا بحيث صار كل منهما يتمكن من رؤية الآخر ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق الدراوردي عن ثور ‏"‏ فتتراءى له ذريته ‏"‏ على الأصل وفي حديث أبي هريرة ‏"‏ فيقال هذا أبوكم ‏"‏ وفي رواية الدراوردي ‏"‏ فيقولون هذا أبوكم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك‏)‏ في الاقتصار على الخير نوع تعطيف ورعاية للأدب وإلا فالشر أيضا بتقدير الله كالخير‏.‏

قوله ‏(‏أخرج بعث النار‏)‏ في حديث أبي هريرة ‏"‏ بعث جهنم من ذريتك ‏"‏ وفي رواية أحمد ‏"‏ نصيب ‏"‏ بدل ‏"‏ بعث ‏"‏ والبعث بمعنى المبعوث وأصلها في السرايا التي يبعثها الأمير إلى جهة من الجهات للحرب وغيرها ومعناها هنا ميز أهل النار من غيرهم وإنما خص بذلك آدم لكونه والد الجميع ولكونه كان قد عرف أهل السعادة من أهل الشقاء فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وعن يمينه أسودة وعن شماله أسودة الحديث كما تقدم في حديث الإسراء وقد أخرج ابن أبي الدنيا من مرسل الحسن قال ‏"‏ يقول الله لآدم‏:‏ يا آدم أنت اليوم عدل بيني وبين ذريتك قم فانظر ما يرفع إليك من أعمالهم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال وما بعث النار‏)‏ الواو عاطفة على شيء محذوف تقديره سمعت وأطعت وما بعث النار أي وما مقدار مبعوث النار وفي حديث أبي هريرة ‏"‏ فيقول يا رب كم أخرج‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين‏)‏ في حديث أبي هريرة ‏"‏ من كل مائة تسعة وتسعين ‏"‏ قال الإسماعيلي‏:‏ في حديث أبي سعيد ‏"‏ من كل ألف واحد ‏"‏ وكذا في حديث غيره ويشبه أن يكون حديث ثور يعني راويه عن أبي الغيث عن أبي هريرة وهما‏.‏

قلت‏:‏ ولعله يريد بقوله غيره ما أخرجه الترمذي من وجهين عن الحسن البصري عن عمران بن حصين نحوه وفي أوله زيادة قال ‏"‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فرفع صوته بهاتين الآيتين‏:‏ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم - إلى شديد فحث أصحابه المطي فقال‏:‏ هل تدرون أي يوم ذاك‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏

قال‏:‏ ذاك يوم ينادي الله آدم ‏"‏ فذكر نحو حديث أبي سعيد وصححه وكذا الحاكم وهذا سياق قتادة عن الحسن من رواية هشام الدستوائي عنه ورواه معمر عن قتادة فقال عن أنس أخرجه الحاكم أيضا ونقل عن الذهلي أن الرواية الأولى هي المحفوظة وأخرجه البزار والحاكم أيضا من طريق هلال بن خباب بمعجمة وموحدتين الأولى ثقيلة عن عكرمة عن ابن عباس قال ‏"‏ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ثم قال‏:‏ هل تدرون ‏"‏ فذكر نحوه وكذا وقع في حديث عبد الله بن عمر وعند مسلم رفعه ‏"‏ يخرج الدجال - إلى أن قال - ثم ينفخ في الصور أخرى فإذا هم قيام ينظرون ثم يقال‏:‏ أخرجوا بعث النار ‏"‏ وفيه ‏"‏ فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون‏.‏

فذاك يوم يجعل الولدان شيبا ‏"‏ وكذا رأيت هذا الحديث في مسند أبي الدرداء بمثل العدد المذكور رويناه في ‏"‏ فوائد طلحة بن الصقر ‏"‏ وأخرجه ابن مردويه من حديث أبي موسى نحوه فاتفق هؤلاء على هذا العدد ولم يستحضر الإسماعيلي لحديث أبي هريرة متابعا وقد ظفرت به في مسند أحمد فإنه أخرج من طريق أبي إسحاق الهجري وفيه مقال عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود نحوه‏.‏

وأجاب الكرماني بأن مفهوم العدد لا اعتبار له فالتخصيص بعدد لا يدل على نفي الزائد والمقصود من العددين واحد وهو تقليل عدد المؤمنين وتكثير عدد الكافرين‏.‏

قلت‏:‏ ومقتضى كلامه الأول تقديم حديث أبي هريرة على حديث أبي سعيد فإنه يشتمل على زيادة فإن حديث أبي سعيد يدل على أن نصيب أهل الجنة من كل ألف واحد وحديث أبي هريرة يدل على عشرة فالحكم للزائد ومقتضى كلامه الأخير أن لا ينظر إلى العدد أصلا بل القدر المشترك بينهما ما ذكره من تقليل العدد وقد فتح الله تعالى في ذلك بأجوبة أخر وهو حمل حديث أبي سعيد ومن وافقه على جميع ذرية آدم فيكون من كل ألف واحد حمل حديث أبي هريرة ومن وافقه على من عدا يأجوج ومأجوج فيكون من كل ألف عشرة ويقرب ذلك أن يأجوج ومأجوج ذكروا في حديث أبي سعيد دون حديث أبي هريرة ويحتمل أن يكون الأول يتعلق بالخلق أجمعين والثاني بخصوص هذه الأمة ويقربه قوله في حديث أبي هريرة ‏"‏ إذا أخذ منا ‏"‏ لكن في حديث ابن عباس ‏"‏ وإنما أمتي جزء من ألف جزء ‏"‏ ويحتمل أن تقع القسمة مرتين مرة من جميع الأمم قبل هذه الأمة فيكون من كل ألف واحد ومرة من هذه الأمة فقط فيكون من كل ألف عشرة ويحتمل أن يكون المراد ببعث النار الكفار ومن يدخلها من العصاة فيكون من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون كافرا ومن كل مائة تسعة وتسعون عاصيا والعلم عند الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏فذاك حين يشيب الصغير وتضع وساق إلى قوله شديد‏)‏ ظاهره أن ذلك يقع في الموقف وقد استشكل بأن ذلك الوقت لا حمل فيه ولا وضع ولا شيب ومن ثم قال بعض المفسرين إن ذلك قبل يوم القيامة لكن الحديث يرد عليه وأجاب الكرماني بأن ذلك وقع على سبيل التمثيل والتهويل وسبق إلى ذلك النووي فقال‏:‏ فيه وجهان للعلماء فذكرهما وقال‏:‏ التقدير أن الحال ينتهي أنه لو كانت النساء حينئذ حوامل لوضعت كما تقول العرب ‏"‏ أصابنا أمر يشيب منه الوليد ‏"‏ وأقول يحتمل أن يحمل على حقيقته فإن كل أحد يبعث على ما مات عليه فنبعث الحامل حاملا والمرضع مرضعة والطفل طفلا فإذا وقعت زلزلة الساعة وقيل ذلك لآدم ورأى الناس آدم وسمعوا ما قيل له وقع بهم من الوجل ما يسقط معه الحمل ويشيب له الطفل وتذهل به المرضعة ويحتمل أن يكون ذلك بعد النفخة الأولى وقبل النفخة الثانية ويكون خاصا بالموجودين حينئذ وتكون الإشارة بقوله ‏"‏ فذاك ‏"‏ إلى يوم القيامة وهو صريح في الآية ولا يمنع من هذا الحمل ما يتخيل من طول المسافة بين قيام الساعة واستقرار الناس في الموقف ونداء آدم لتمييز أهل الموقف لأنه قد ثبت أن ذلك يقع متقاربا كما قال الله تعالى ‏(‏فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة‏)‏ يعني أرض الموقف وقال تعالى ‏(‏يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به‏)‏ والحاصل أن يوم القيامة يطلق على ما بعد نفخة البعث من أهوال وزلزلة وغير ذلك إلى آخر الاستقرار في الجنة أو النار وقريب منه ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو في أشراط الساعة إلى أن ذكر النفخ في الصور إلى أن قال ‏"‏ ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون‏.‏

ثم يقال أخرجوا بعث النار ‏"‏ فذكره قال ‏"‏ فذاك يوم يجعل الولدان شيبا ‏"‏ ووقع في حديث الصور الطويل عند علي بن معبد وغيره ما يؤيد الاحتمال الثاني وقد تقدم بيانه في ‏"‏ باب النفخ في الصور ‏"‏ وفيه بعد قوله وتضع الحوامل ما في بطونها وتشيب الولدان وتتطاير الشياطين ‏"‏ فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض فيأخذهم لذلك الكرب والهول‏.‏

ثم تلا الآيتين من أول الحج ‏"‏ الحديث‏.‏

قال القرطبي في ‏"‏ التذكرة ‏"‏‏:‏ هذا الحديث صححه ابن العربي فقال‏:‏ يوم الزلزلة يكون عند النفخة الأولى وفيه ما يكون فيه من الأهوال العظيمة ومن جملتها ما يقال لآدم ولا يلزم من ذلك أن يكون ذلك متصلا بالنفخة الأول بل له محملان‏.‏

أحدهما أن يكون آخر الكلام منوطا بأوله والتقدير يقال لآدم ذلك في أثناء اليوم الذي يشيب فيه الولدان وغير ذلك وثانيهما أن يكون شيب الولدان عند النفخة الأولى حقيقة والقول لآدم يكون وصفه بذلك إخبارا عن شدته وإن لم يوجد عين ذلك الشيء‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ يحتمل أن يكون المعنى أن ذلك حين يقع لا يهم كل أحد إلا نفسه حتى إن الحامل تسقط من مثله والمرضعة إلخ‏.‏

ونقل عن الحسن البصري في هذه الآية‏:‏ المعنى أن لو كان هناك مرضعة لذهلت‏.‏

وذكر الحليمي واستحسنه القرطبي أنه يحتمل أن يحيى الله حينئذ حمل كان قد تم خلقه ونفخت فيه الروح فتذهل الأم حينئذ عنه لأنها لا تقدر على إرضاعه إذ لا غذاء هنا ولا لبن، وأما الحمل الذي لم ينفخ فيه الروح فإنه إذا سقط لم يحيى لأن ذلك يوم الإعادة، فمن لم يمت في الدنيا لم يحيى في الآخرة‏.‏

قوله ‏(‏فاشتد ذلك عليهم‏)‏ في حديث ابن عباس ‏"‏ فشق ذلك على القوم ووقعت عليهم الكآبة والحزن ‏"‏ وفي حديث عمران عند الترمذي من رواية ابن جدعان عن الحسن ‏"‏ فأنشأ المؤمنون يبكون ‏"‏ ومن رواية قتادة عن الحسن ‏"‏ فنبس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة ‏"‏ ونبس بضم النون وكسر الموحدة بعدها مهملة معناه تكلم فأسرع، وأكثر ما يستعمل في النفي‏.‏

وفي رواية شيبان عن قتادة عند ابن مردويه ‏"‏ أبلسوا ‏"‏ وكذا له نحوه من رواية ثابت عن الحسن‏.‏

قوله ‏(‏وأينا ذلك الرجل‏)‏ قال الطيبي‏:‏ يحتمل أن يكون الاستفهام على حقيقته، فكان حق الجواب أن ذلك الواحد فلان أو من يتصف بالصفة الفلانية، ويحتمل أن يكون استعظاما لذلك الأمر واستشعارا للخوف منه، فلذلك وقع الجواب بقوله ‏"‏ أبشروا ‏"‏ ووقع في حديث أبي هريرة ‏"‏ فقالوا يا رسول الله إذا أخذ منا من كل مائة تسعة وتسعون فماذا يبقى ‏"‏ وفي حديث أبي الدرداء ‏"‏ فبكى أصحابه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقال أبشروا‏)‏ في حديث ابن عباس اعملوا وأبشروا، وفي حديث عمران مثله، وللترمذي من طريق ابن جدعان ‏"‏ قاربوا وسددوا ‏"‏ ونحوه في حديث أنس‏.‏

قوله ‏(‏فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل‏)‏ ظاهره زيادة واحد عما ذكر من تفصيل الألف فيحتمل أن يكون من جبر الكسر، والمراد أن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين أو ألفا إلا واحدا، وأما قوله ‏"‏ ومنكم رجل ‏"‏ تقديره والمخرج منكم أو ومنكم رجل مخرج، ووقع في بعض الشروح أن لبعض الرواة ‏"‏ فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفا ‏"‏ بالنصب فيهما على المفعول بإخراج المذكور في أول الحديث، أي فإنه يخرج كذا، وروى بالرفع على خبر إن واسمها مضمر قبل المجرور، أي فإن المخرج منكم رجل، قلت‏:‏ والنصب أيضا على اسم إن صريحا في الأول وبتقدير في الثاني، وهو أولى من الذي قاله فإن فيه تكلفا، ووقع في رواية الأصيلي بالرف في ألف وحده وبالنصب في رجلا ولأبي ذر بالعكس‏.‏

وفي رواية مسلم بالرفع فيهما، قال النووي‏:‏ هكذا في جميع الروايات والتقدير فإنه فحذف الهاء وهي ضمير الشأن وذلك مستعمل كثيرا، ووقع في حديث ابن عباس ‏"‏ وإنما أمتي جزء من ألف جزء ‏"‏ قال الطيبي‏:‏ فيه إشارة إلى أن يأجوج ومأجوج داخلون في العدد المذكور والوعيد كما يدل قوله ‏"‏ ربع أهل الجنة ‏"‏ على أن في غير هذه الأمة أيضا من أهل الجنة‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ قوله ‏"‏ من يأجوج ومأجوج ألف ‏"‏ أي منهم وممن كان على الشرك مثلهم، وقوله ‏"‏ومنكم رجل ‏"‏ يعني من أصحابه ومن كان مؤمنا مثلهم‏.‏

قلت‏:‏ وحاصله أن الإشارة بقوله ‏"‏ منكم ‏"‏ إلى المسلمين من جميع الأمم، وقد أشار إلى ذلك في حديث ابن مسعود بقوله ‏"‏ إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ثم قال والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة‏)‏ تقدم في الباب قبله من حديث ابن مسعود ‏"‏ أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ‏"‏ وكذا في حديث ابن عباس، وهو محمول على تعدد القصة، فقد تقدم أن القصة التي في حديث ابن مسعود وقعت وهو صلى الله عليه وسلم في قبته بمنى، والقصة التي في حديث أبي سعيد وقعت وهو صلى الله عليه وسلم سائر على راحلته، ووقع في رواية ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ‏"‏ بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره في غزوة بني المصطلق ‏"‏ ومثله في مرسل مجاهد عند الخطيب في ‏"‏ المبهمات ‏"‏ كما سيأتي التنبيه عليه في ‏"‏ باب من يدخل الجنة بغير حساب‏"‏‏.‏

ثم ظهر لي أن القصة واحدة وأن بعض الرواة حفظ فيه ما لم يحفظ الآخر، إلا أن قول من قال كان ذلك في غزوة بني المصطلق واه والصحيح ما في حديث ابن مسعود وأن ذلك كان بمنى، وأما ما وقع في حديثه أنه قال ذلك وهو في قبته فيجمع بينه وبين حديث عمران بأن تلاوته الآية وجوابه عنها اتفق أنه كان وهو سائر، ثم قوله ‏"‏ إني لأطمع إلخ ‏"‏ وقع بعد أن نزل وقعد بالقبة، وأما زيادة الربع قبل الثلث فحفظها أبو سعيد وبعضهم لم يحفظ الربع، وقد تقدمت سائر مباحثه في الحديث الخامس من الباب الذي قبله‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ قَالَ الْوُصُلَاتُ فِي الدُّنْيَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين‏)‏ كأنه أشار بهذه الآية إلى ما أخرجه هناد بن السري في الزهد من طريق عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن عمرو قال ‏"‏ قال له رجل‏:‏ إن أهل المدينة ليوفون الكيل، فقال‏:‏ وما يمنعهم وقد قال الله تعالى‏:‏ ويل للمطففين إلى قوله‏:‏ يوم يقوم الناس لرب العالمين، قال‏:‏ إن العرق ليبلغ أنصاف آذانهم من هول يوم القيامة ‏"‏ وهذا لما لم يكن على شرطه أشار إليه، وأورد حديث ابن عمر المرفوع في معناه، وأصل البعث إثارة الشيء عن جفاء وتحريكه عن سكون، والمراد به هنا إحياء الأموات وخروجهم من قبورهم ونحوها إلى حكم يوم القيامة‏.‏

قوله ‏(‏قال ابن عباس‏:‏ وتقطعت بهم الأسباب قال‏:‏ الوصلات في الدنيا‏)‏ بضم الواو والصاد المهملة‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ ضبطناه يفتح الصاد وبضمها وبسكونها‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ الأسباب هي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا واحدتها وصلة، وهذا الأثر لم أظفر به عن ابن عباس بهذا اللفظ، وقد وصله عبد بن حميد والطبري وابن أبي حاتم بسند ضعيف عن ابن عباس قال‏:‏ المودة، وهو بالمعنى‏.‏

وكذا أخرجه عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، وللطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال‏:‏ تقطعت بهم المنازل، ومن طريق الربيع بن أنس مثله، وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن الربيع عن أبي العالية قال يعني أسباب الندامة، وللطبري من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال‏:‏ الأسباب الأرحام، وهذا منقطع‏.‏

ولابن أبي حاتم من طريق الضحاك قال‏:‏ تقطعت بهم الأرحام وتفرقت بهم المنازل في النار‏.‏

وورد بلفظ التواصل والمواصلة أخرجه الثلاثة المذكرون أيضا من طريق عبيد المكتب عن مجاهد قال‏:‏ تواصلهم في الدنيا‏.‏

وللطبري من طريق جريج عن مجاهد قال‏:‏ تواصل كان بينهم بالمودة في الدنيا‏.‏

وله من طريق سعيد ولعبد من طريق شيبان كلاهما عن قتادة قال‏:‏ الأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها ويتحابون فصارت عداوة يوم القيامة‏.‏

وللطبري من طريق معمر عن قتادة قال‏:‏ هو الوصل الذي كان بينهم في الدنيا‏.‏

ولعبد من طريق السدي عن أبي صالح قال‏:‏ الأعمال‏.‏

وهو عند الطبري عن السدي من قوله، قال الطبري‏:‏ الأسباب جمع سبب وهو كل ما يتسبب به إلى طلبة وحاجة، فيقال للحبل سبب لأنه يتوصل به إلى الحاجة التي يتعلق به إليها، وللطريق سبب للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك إلا بقطعه، وللمصاهرة سبب للحرمة وللوسيلة سبب للوصول بها إلى الحاجة‏.‏

وقال الراغب‏:‏ السبب‏:‏ الحبل، وسمي كل ما يتوصل به إلى شيء سببا، ومنه ‏(‏لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات‏)‏ أي أصل إلى الأسباب الحادثة في السماء فأتوصل بها إلى معرفة ما يدعيه موسى، ويسمى العمامة والخمار والثوب الطويل سببا تشبيها بالحبل وكذا منهج الطريق لشبهه بالحبل، وبالثوب الممدود أيضا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر ‏"‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم يقوم الناس لرب العالمين قال‏:‏ يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه ‏"‏ في رواية صالح بن كيسان عن نافع عند مسلم حتى يغيب أحدهم، وكذا تقدم في تفسير ‏(‏ويل للمطففين‏)‏ من طريق مالك عن نافع، والرشح بفتح الراء وسكون الشين المعجمة بعدهما مهملة هو العرق شبه برشح الإناء لكونه يخرج من البدن شيئا فشيئا، وهذا ظاهر في أن العرق يحصل لكل شخص من نفسه، وفيه تعقب على من جوز أن يكون من عرقه فقط أو من عرقه وعرق غيره‏.‏

وقال عياض‏:‏ يحتمل أن يريد عرق الإنسان نفسه بقدر خوفه مما يشاهده من الأهوال، ويحتمل أن يريد عرقه وعرق غيره فيشدد على بعض ويخفف على بعض وهذا كله بتزاحم الناس وانضمام بعضهم إلى بعض حتى صار العرق يجري سائحا في وجه الأرض كالماء في الوادي بعد أن شربت منه الأرض وغاص فيها سبعين ذراعا‏.‏

قلت‏:‏ واستشكل بأن الجماعة إذا وقفوا في الماء الذي على أرض معتدلة كانت تغطية الماء لهم على السواء، لكنهم إذا اختلفوا في الطول والقصر تفاوتوا فكيف يكون الكل إلى الأذن‏؟‏ والجواب أن ذلك من الخوارق الواقعة يوم القيامة، والأولى أن تكون الإشارة بمن يصل الماء إلى أذنيه إلى غاية ما يصل الماء، ولا ينفي أن يصل الماء لبعضهم إلى دون ذلك، فقد أخرج الحاكم من حديث عقبة بن عامر رفعه ‏"‏ تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرق الناس، فمنهم من يبلغ عرقه عقبه ومنهم من يبلغ نصف ساقه ومنهم من يبلغ كبته ومنهم من يبلغ فخذه ومنهم من يبلغ خاصرته ومنهم من يبلغ منكبه ومنهم من يبلغ فاه وأشار بيده فألجمها فاه ومنهم من يغطيه عرقه وضرب بيده على رأسه ‏"‏ وله شاهد عند مسلم من حديث المقداد بن الأسود وليس بتمامه وفيه ‏"‏ تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل فتكون الناس على مقدار أعمالهم في العرق ‏"‏ الحديث فإنه ظاهر في أنهم يستوون في وصول العرق إليهم ويتفاوتون في حصوله فيهم‏.‏

وأخرج أبو يعلى وصححه ابن حبان عن أبي هرة رضي الله عنه ‏"‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يوم يقوم الناس لرب العالمين قال‏:‏ مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس إلى أن تغرب ‏"‏ وأخرجه أحمد وابن حبان نحوه من حديث أبي سعيد والبيهقي في البعث من طريق عبد الله بن الحارث عن أبي هريرة ‏"‏ يحشر الناس قياما أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء فيلجمهم العرق من شدة الكرب‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثني سليمان‏)‏ هو ابن بلال والسند كل مدنيون‏.‏

قوله ‏(‏يعرق الناس‏)‏ بفتح الراء وهي مكسورة في الماضي‏.‏

قوله ‏(‏يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا، ويلجمهم العرق حتى يبلغ آذانهم‏)‏ في رواية الإسماعيلي من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلان ‏"‏ سبعين باعا ‏"‏ وفي رواية مسلم من طريق الدراوردي عن ثور ‏"‏ وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم شك ثور ‏"‏ وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الذي يلجمه العرق الكافر أخرجه البيهقي في البعث بسند حسن عنه قال ‏"‏ يشتد كرب ذلك اليوم حتى يلجم الكافر العرق، قيل له‏:‏ فأين المؤمنون‏؟‏ قال علي الكراسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام ‏"‏ وبسند قوي عن أبي موسى قال ‏"‏ الشمس فوق رءوس الناس يوم القيامة وأعمالهم تظلهم ‏"‏ وأخرج ابن المبارك في الزهد وابن أبي شيبة في المصنف واللفظ له بسند جيد عن سلمان قال ‏"‏ تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين ثم تدنى من جماجم الناس حتى تكون قاب قوسين فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة ثم ترتفع حتى يغرغر الرجل ‏"‏ زاد ابن المبارك في روايته ‏"‏ ولا يضر حرها يومئذ مؤمنا ولا مؤمنة ‏"‏ قال القرطبي‏:‏ المراد من يكون كامل الإيمان لما يدل عليه حديث المقداد وغيره أنهم يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم، وفي حديث ابن مسعود عند الطبراني والبيهقي ‏"‏ إن الرجل ليفيض عرقا حتى يسيح في الأرض قامة، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه ‏"‏ وفي رواية عنه عند أبي يعلى وصححها ابن حبان ‏"‏ إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول‏:‏ يا رب أرحني ولو إلى النار ‏"‏ وللحاكم والبزار من حديث جابر نحوه، وهو كالصريح في إن ذلك كله في الموقف، وقد ورد أن التفصيل الذي في حديث عقبة والمقداد يقع مثله لمن يدخل النار، فأخرج مسلم أيضا من حديث سمرة رفعه ‏"‏ أن منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه إلى حجزته وفي رواية إلى حقويه ومنهم من تأخذه إلى عنقه ‏"‏ وهذا يحتمل أن يكون النار فيه مجازا عن شدة الكرب الناشئ عن العرق فيتحد الموردان، ويمكن أن يكون ورد في حق من يدخل النار من الموحدين‏.‏

فإن أحوالهم في التعذيب تختلف بحسب أعمالهم، وأما الكفار فإنهم في الغمرات‏.‏

قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة‏:‏ ظاهر الحديث تعميم الناس بذلك، ولكن دلت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله، فأشدهم في العرق الكفار ثم أصحاب الكبائر ثم من بعدهم والمسلمون منهم قليل بالنسبة إلى الكفار كما تقدم تقريره في حديث بعث النار، قال‏:‏ والظاهر أن المراد بالذراع في الحديث المتعارف، وقيل هو الذراع الملكي، ومن تأمل الحالة المذكورة عرف عظم الهول فيها، وذلك أن النار تحف بأرض الموقف وتدنى الشمس من الرءوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض وماذا يرويها من العرق حتى يبلغ منها سبعين ذراعا مع أن كل واحد لا يجد إلا قدر موضع قدمه، فكيف تكون حالة هؤلاء في عرقهم مع تنوعهم فبه، إن هذا لمما يبهر العقول ويدل على عظيم القدوة ويقتضي الإيمان بأمور الآخرة أن ليس للعقل فيها مجال، ولا يعترض عليها بعقل ولا قياس ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول ويدخل تحت الإيمان بالغيب، ومن توقف في ذلك دل على خسرانه وحرمانه‏.‏

وفائدة الإخبار بذلك أن يتنبه السامع فيأخذ في الأسباب التي تخلصه من تلك الأهوال، ويبادر إلى التوبة من التبعات، ويلجأ إلى الكريم الوهاب في عونه على أسباب السلامة، ويتضرع إليه في سلامته من دار الهوان، وإدخاله دار الكرامة بمنه وكرمه‏.‏

*3*باب الْقِصَاصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

وَهِيَ الْحَاقَّةُ لِأَنَّ فِيهَا الثَّوَابَ وَحَوَاقَّ الْأُمُورِ الْحَقَّةُ وَ الْحَاقَّةُ وَاحِدٌ وَ الْقَارِعَةُ وَالْغَاشِيَةُ وَ الصَّاخَّةُ وَالتَّغَابُنُ غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب القصاص يوم القيامة‏)‏ القصاص بكسر القاف وبمهملتين مأخوذ من القص وهو القطع، أو من اقتصاص الأثر وهو تتبعه، لأن المقتص يتتبع جناية الجاني ليأخذ مثلها، يقال اقتص من غريمه واقتص الحاكم لفلان من فلان‏.‏

قوله ‏(‏وهي الحاقة‏)‏ الضمير للقيامة‏.‏

قوله ‏(‏لأن فيها الثواب؛ وحواق الأمور الحقة والحاقة واحد‏)‏ هذا أخذه من كلام الفراء، قال في ‏"‏ معاني القرآن‏"‏‏.‏

الحاقة القيامة، سميت بذلك لأن فيها الثواب وحواق الأمور، ثم قال‏:‏ والحقة والحاقة كلاهما بمعنى واحد، قال الطبري‏:‏ سميت الحاقة لأن الأمور تحق فيها، وهو كقولهم ليل قائم‏.‏

وقال غيره‏:‏ سميت الحاقة لأنها أحقت لقوم الجنة ولقوم النار، وقيل لأنها تحاقق الكفار الذين خالفوا الأنبياء، يقال حاققته فحققته أي خاصمته فخصمته، وقيل لأنها حق لا شك فيه‏.‏

قوله ‏(‏والقارعة‏)‏ هو معطوف على الحاقة، والمراد أنها من أسماء يوم القيامة، وسميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها‏.‏

قوله ‏(‏والغاشية‏)‏ سميت بذلك لأنها تغشى الناس بأفزاعها أي تعمهم بذلك‏.‏

قوله ‏(‏والصاخة‏)‏ قال الطبري‏:‏ أظنه من صخ فلان فلانا إذا أصمه، وسميت بذلك لأن صيحة القيامة مسمعة لأمور الآخرة ومصمة عن أمور الدنيا، وتطلق الصاخة أيضا على الداهية‏.‏

قوله ‏(‏التغابن غبن أهل الجنة أهل النار‏)‏ غبن بفتح المعجمة والموحدة بعدها نون، والسبب في ذلك أن أهل الجنة ينزلون منازل الأشقياء التي كانت أعدت لهم لو كانوا سعداء، فعلى هذا فالتغابن من طرف واحد، ولكنه ذكر بهذه الصيغة للمبالغة، وقد اقتصر المصنف من أسماء يوم القيامة على هذا القدر، وجمعها الغزالي ثم القرطبي فبلغت نحو الثمانين اسما، فمنها يوم الجمع ويوم الفزع الأكبر ويوم التناد ويوم الوعيد ويوم الحسرة ويوم التلاق ويوم المآب ويوم الفصل ويوم العرض على الله ويوم الخروج ويوم الخلود، ومنها يوم عظيم ويوم عسير ويوم مشهود ويوم عبوس قمطرير، ومنها يوم تبلى السرائر، ومنها يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ويوم يدعون إلى نار جهنم ويوم تشخص فيه الأبصار ويوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ويوم لا ينطقون ويوم لا ينفع مال ولا بنون ويوم لا يكتمون الله حديثا ويوم لا مرد له من الله ويوم لا بيع فيه ولا خلال ويوم لا ريب فيه، فإذا ضمت هذه إلى ما ذكر في الأصل كانت أكثر من ثلاثين اسما معظمها ورد في القرآن بلفظه، وسائر الأسماء المشار إليها أخذت بطريق الاشتقاق بما ورد منصوصا كيوم الصدر من قوله ‏(‏يومئذ يصدر الناس أشتاتا‏)‏ ويوم الجدال من قوله ‏(‏يوم تأتي نفس تجادل عن نفسها‏)‏ ولو تتبع مثل هذا من القرآن زاد على ما ذكر والله أعلم‏.‏

وذكر في الباب ثلاثة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ

الشرح‏:‏

حديث ابن مسعود والسند إليه كوفيون، وشقيق هو ابن سلمة أبو وائل مشهور بكنيته أكثر من اسمه‏.‏

قوله ‏(‏أول ما يقضى بين الناس بالدماء‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ الدماء ‏"‏ وسيأتي كالأول في الديات من وجه آخر عن الأعمش، ولمسلم والإسماعيلي من طريق أخرى عن الأعمش ‏"‏ بين الناس يوم القيامة في الدماء ‏"‏ أي التي وقعت بين الناس في الدنيا، والمعنى أول القضايا القضاء في الدماء، ويحتمل أن يكون التقدير أول ما يقضى فيه الأمر الكائن في الدماء، ولا يعارض هذا حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته ‏"‏ الحديث أخرجه أصحاب السنن لأن الأول محمول على ما يتعلق بمعاملات الخلق والثاني فيما يتعلق بعبادة الخالق، وقد جمع النسائي في روايته في حديث ابن مسعود بين الخبرين ولفظه ‏"‏ أول ما يحاسب العبد عليه صلاته، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء ‏"‏ وتقدم في تفسير سورة الحج ذكر هذه الأولية بأخص مما في حديث الباب وهو عن على قال ‏"‏ أنا أول من يحثو للخصومة يوم القيامة ‏"‏ يعني هو ورفيقاه حمزة وعبيدة وخصومهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة الذين بارزوا يوم بدر، قال أبو ذر‏:‏ فهم نزلت ‏(‏هذان خصمان اختصموا في ربهم‏)‏ الآية وتقدم شرحه هناك، وفي حديث الصور الطويل عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ أول ما يقضى بين الناس في الدماء، ويأتي كل قتيل قد حمل رأسه فيقول‏:‏ يا رب سل هذا فيم قتلني ‏"‏ الحديث، وفي حديث نافع بن جبير عن ابن عباس رفعه ‏"‏ يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه ملببا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يقفا بين يدي الله ‏"‏ الحديث، ونحوه عند ابن المبارك عن عبد الله بن مسعود موقوفا‏.‏

وأما كيفية القصاص فيما عدا ذلك فيعلم من الحديث الثاني‏.‏

وأخرج ابن ماجه عن ابن عباس رفعه ‏"‏ نحن آخر الأمم وأول من يحاسب يوم القيامة ‏"‏ وفي الحديث عظم أمر الدم، فإن البداءة إنما تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك‏.‏

وقد ورد في التغليظ في أمر القتل آيات كثيرة وآثار شهيرة يأتي بعضها في أول الديات‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري‏)‏ في رواية ابن وهب عن مالك ‏"‏ حدثني سعيد بن أبي سعيد‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏من كانت عنده مظلمة لأخيه‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ من أخيه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ليس ثم دينار ولا درهم‏)‏ في حدث ابن عمر رفعه ‏"‏ من مات وعليه دينار أو درهم قضى من حسناته ‏"‏ أخرجه ابن ماجه، وقد مضى شرحه في كتاب المظالم، والمراد بالحسنات الثواب عليها وبالسيئات العقاب عليها، وقد استشكل إعطاء الثواب وهو لا يتناهى في مقابلة العقاب وهو متناه، وأجيب بأنه محمول على أن الذي يعطاه صاحب الحق من أصل الثواب ما يوازي العقوبة عن السيئة وأما ما زاد على ذلك بفضل الله فإنه يبقى لصاحبه، قال البيهقي سيئات المؤمن على أصول أهل السنة متناهية الجزاء وحسناته غير متناهية الجزاء لأن من ثوابها الخلود في الجنة، فوجه الحديث عندي والله أعلم أنه يعطى خصماء المؤمن المسيء من أجر حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته فإن فنيت حسناته أخذ من خطايا خصومه فطرحت عليه ثم يعذب إن لم يعف عنه، فإذا انتهت عقوبة تلك الخطايا أدخل الجنة بما كتب له من الخلود فيها بإيمانه ولا يعطى خصماؤه ما زاد من أجر حسناته على ما قابل عقوبة سيئاته يعني من المضاعفة، لأن ذلك من فضل الله يختص به من وافى يوم القيامة مؤمنا والله أعلم‏.‏

قال الحميدي في ‏"‏ كتاب الموازنة‏:‏ الناس ثلاثة ‏"‏ من رجحت حسناته على سيئاته أو بالعكس أو من تساوت حسناته وسيئاته، فالأول فائز بنص القرآن والثاني يقتضى منه بما فضل من معاصيه على حسناته من النفخة إلى آخر من يخرج من النار بمقدار قلة شره وكثرته والقسم الثالث أصحاب الأعراف، وتعقبه أبو طالب عقيل بن عطية في كتابه الذي رد عليه فيه بأن حق العبارة فيه أن يقيد بمن شاء الله أن يعذبه منهم وإلا فالمكلف في المشيئة وصوب الثالث على أحد الأقوال أهل الأعراف قال‏:‏ وهو أرجح الأقوال فيهم‏.‏

قلت‏:‏ قد قال الحميدي أيضا‏:‏ والحق أن من رجحت سيئاته على حسناته على قسمين من يعذب ثم يخرج من النار بالشفاعة ومن يعفى عنه فلا يعذب أصلا‏.‏

وعند أبي نعيم من حديث ابن مسعود يؤخذ بيد العبد فينصب على رءوس الناس وينادي مناد‏:‏ هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق فليأت، فيأتون فيقول الرب‏:‏ آت هؤلاء حقوقهم، فيقول‏:‏ يا رب فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم، فيقول للملائكة‏:‏ خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته، فإن كان ناجيا وفضل من حسناته مثقال حبة من خردل ضاعفها الله حتى يدخله بها الجنة‏.‏

وعند ابن أبي الدنيا عن حذيفة قال‏:‏ صاحب الميزان يوم القيامة جبريل، يرد بعضهم على بعض، ولا ذهب يومئذ ولا فضة، فيؤخذ من حسنات الظالم فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فردت على الظالم‏.‏

أخرج أحمد والحاكم من حديث جابر عن عبد الله بن أنيس رفعه ‏"‏ لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده مظلمة حتى أقصه منه، حتى اللطمة‏.‏

قلنا يا رسول الله كيف وإنما نحشر حفاة عراة‏؟‏ قال‏:‏ بالسيئات والحسنات ‏"‏ وعلق البخاري طرفا منه التوحيد كما سيأتي، وفي حديث أبي أمامة في نحو حديث أبي سعيد ‏"‏ إن الله يقول لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم ‏"‏ وفيه دلالة على موازنة الأعمال يوم القيامة‏.‏

وقد صنف فيه الحميدي صاحب ‏"‏ الجمع ‏"‏ كتابا لطيفا وتعقب أبو طالب عقيل بن عطية أكثره في كتاب سماه ‏"‏ تحرير المقال في موازنة الأعمال ‏"‏ وفي حديث الباب وما بعده دلالة على ضعف الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية غيلان بن جرير عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه رفعه ‏"‏ يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى ‏"‏ فقد ضعفه البيهقي وقال‏:‏ تفرد به شداد أبو طلحة، والكافر لا يعاقب بذنب غيره لقوله تعالى ‏(‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏)‏ وقد أخرج أصل الحديث مسلم من وجه آخر عن أبي بردة بلفظ ‏"‏ إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول‏:‏ هذا فداؤك من النار ‏"‏ قال البيهقي‏:‏ ومع ذلك فضعفه البخاري وقال‏:‏ الحديث في الشفاعة أصح‏.‏

قال البيهقي‏:‏ ويحتمل أن يكون الفداء في قوم كانت ذنوبهم كفرت عنهم في حياتهم، وحديث الشفاعة في قوم لم تكفر ذنوبهم، ويحتمل أن يكون هذا القول لهم في الفداء بعد خروجهم من النار بالشفاعة‏.‏

وقال غيره‏:‏ يحتمل أن يكون الفداء مجازا عما يدل عليه حديث أبي هريرة الآتي في أواخر ‏"‏ باب صفة الجنة والنار ‏"‏ قريبا بلفظ ‏"‏ لا يدخل الجنة أحد إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ‏"‏ الحديث وفيه في مقابله ‏"‏ ليكون عليه حسرة ‏"‏ فيكون المراد بالفداء إنزال المؤمن في مقعد الكافر من الجنة الذي كان أعد له وإنزال الكافر في مقعد المؤمن الذي كان أعد له، وقد يلاحظ في ذلك قوله تعالى ‏(‏وتلك الجنة التي أورثتموها‏)‏ وبذلك أجاب النووي تبعا لغيره‏.‏

وأما رواية غيلان بن جرير فأولها النووي أيضا تبعا لغيره بأن الله يغفر تلك الذنوب للمسلمين، فإذا سقطت عنهم وضعت على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم فيعاقبون بذنوبهم لا بذنوب المسلمين ويكون قوله ‏"‏ ويضعها ‏"‏ أي يضع مثلها لأنه لما أسقط عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين لكونهم انفردوا بحمل الإثم الباقي وهو إثمهم، ويحتمل أن يكون المراد آثاما كانت الكفار سببا فيها بأن سنوها فلما غفرت سيئات المؤمنين بقيت سيئات الذي سن تلك السنة السيئة باقية لكون الكافر لا يغفر له، فيكون الوضع كناية عن إبقاء الذنب الذي لحق الكافر بما سنه من عمله السيئ، ووضعه عن المؤمن الذي فعله بما من الله به عليه من العفو والشفاعة سواء كان ذلك قبل دخول النار أو بعد دخولها والخروج منها بالشفاعة وهذا الثاني أقوى والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا الصلت بن محمد‏)‏ بفتح الصاد المهملة وسكون اللام بعدها تاء مثناة من فوق وهو الخاركي بخاء معجمة وكاف‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا بن زريع ‏(‏ونزعنا ما في صدورهم من غل‏)‏ قال حدثنا سعيد‏)‏ أي قرأ يزيد هذه الآية وفسرها بالحديث المذكور، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع بهذا السند إلى أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ‏(‏ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين‏)‏ قال‏:‏ ‏"‏ يخلص المؤمنون ‏"‏ الحديث وظاهره أن تلاوة الآية مرفوع فإن كان محفوظا احتمل أن يكون كل من رواته تلا الآية عند إيراد الحديث فاختصر ذلك في رواية الصلت ممن فوق يزيد بن زريع، وقد أخرجه الطبري من رواية عفان عن يزيد بن زريع حدثنا سعيد بن أبي عروبة في هذه الآية فذكرها قال حدثنا قتادة فذكره، وكذا أخرجه ابن أبي حاتم من طريق شعيب بن إسحاق عن سعيد، ورواه عبد الوهاب بن عطاء وروح بن عبادة عن سعيد فلم يذكر الآية أخرجه ابن مردويه، وأبو المتوكل الناجي بالنون اسمه علي بن داود، ورجال السند كلهم بصريون، وصرح قتادة بالتحديث في هذا الحديث في رواية مضت في المظالم، وكذا الرواية المعلقة ليونس بن محمد عن شيبان عن قتادة ووصلها ابن منده، وكذا أخرجها عبد بن حميد في تفسيره عن يونس بن محمد، وكذا في رواية شعيب بن إسحاق عن سعيد ورواية بشر بن خالد وعفان عن يزيد بن زريع‏.‏

قوله ‏(‏إذا خلص المؤمنون من النار‏)‏ أي نجوا من السقوط فيها بعدما جازوا على الصراط، ووقع في رواية هشام عن قتادة عند المصنف في المظالم ‏"‏ إذا خلص المؤمنون م جسر جهنم ‏"‏ وسيأتي في حديث الشفاعة كيفية مرورهم على الصراط، قال القرطبي‏:‏ هؤلاء المؤمنون هم الذين علم الله أن القصاص لا يستنفد حسناتهم‏.‏

قلت‏:‏ ولعل أصحاب الأعراف منهم على القول المرجح آنفا، وخرج من هذا صنفان من المؤمنين‏:‏ من دخل الجنة بغير حساب؛ ومن أوبقه عمله‏.‏

قوله ‏(‏فيحبسون على قنطرة الجنة والنار‏)‏ سيأتي أن الصراط جسر موضوع على متن جهنم وأن الجنة وراء ذلك فيمر عليه الناس بحسب أعمالهم، فمنهم الناجي وهو من زادت حسناته على سيئاته أو استويا أو تجاوز الله عنه، ومنهم الساقط وهو من رجحت سيئاته على حسناته إلا من تجاوز الله عنه، فالساقط من الموحدين يعذب ما شاء الله ثم يخرج بالشفاعة وغيرها، والناجي قد يكون عليه تبعات وله حسنات توازيها أو تزيد عليها فيؤخذ من حسناته ما يعدل تبعاته فيخلص منها‏.‏

واختلف في القنطرة المذكورة فقيل هي من تتمة الصراط وهي طرفه الذي يلي الجنة، وقيل إنهما صراطان، وبهذا الثاني جزم القرطبي، وسيأتي صفة الصراط في الكلام على الحديث الذي في ‏"‏ باب الصراط حسر جهنم ‏"‏ في أواخر كتاب الرقاق‏.‏

قوله ‏(‏فيقتص لبعضهم من بعض‏)‏ بضم أوله على البناء للمجهول للأكثر‏.‏

وفي رواية الكشميهني بفتح أوله فتكون اللام على هذه الرواية زائدة، أو الفاعل محذوف وهو الله أو من أقامه في ذلك‏.‏

وفي رواية شيبان ‏"‏ فيقتص بعضهم من بعض‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حتى إذا هذبوا ونقوا‏)‏ بضم الهاء وبضم النون وهما بمعنى التمييز والتخليص من التبعات‏.‏

قوله ‏(‏أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده‏)‏ هذا ظاهره أنه مرفوع كله وكذا في سائر الروايات إلا في رواية عفان عند الطبري أبي فإنه جعل هذا من كلام قتادة فقال بعد قوله ‏"‏ في دخول الجنة ‏"‏ قال‏:‏ وقال قتادة ‏"‏ والذي نفسي بيده لأحدهم أهدي إلخ ‏"‏ وفي رواية شعيب بن إسحاق بعد قوله ‏"‏ في دخول الجنة ‏"‏ قال‏:‏ فوالذي نفسي بيده إلخ فأبهم القائل، فعلى رواية عفان يكون هو قتادة وعلى رواية غيره يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد محمد بن المنهال عند الإسماعيلي‏.‏

قال قتادة‏:‏ كان يقال ما يشبه بهم إلا أهل الجمعة إذا انصرفوا من جمعتهم‏.‏

وهكذا عند عبد الوهاب وروح وفي رواية بشر بن خالد وعفان جميعا عند الطبري قال ‏"‏ وقال بعضهم ‏"‏ فذكره وكذا في رواية شعيب بن إسحاق ويونس بن محمد، والقائل ‏"‏ وقال بعضهم ‏"‏ هو قتادة ولم أقف على تسمية القائل‏.‏

قوله ‏(‏لأحدهم أهدي بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا‏)‏ قال الطيبي ‏"‏ أهدي ‏"‏ لا يتعدى بالباء بل باللام أو إلى، فكأنه ضمن معنى اللصوق بمنزله هاديا إليه، ونحوه قوله تعالى ‏(‏يهديهم ربهم بإيمانهم‏)‏ الآية فإن المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم إلى طريق الجنة، فأقام ‏(‏تجري من تحتهم‏)‏ إلى آخرها بيانا وتفسيرا، لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها‏.‏

قلت‏:‏ ولأصل الحديث شاهد من مرسل الحسن أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عنه قال ‏"‏ بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا ويدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل ‏"‏ قال القرطبي‏:‏ وقع في حديث عبد الله بن سلام أن الملائكة تدلهم على طريق الجنة يمينا وشمالا، وهو محمول على من لم يحبس بالقنطرة أو على الجميع، والمراد أن الملائكة تقول ذلك لهم قبل دخول الجنة، فمن دخل كانت معرفته بمنزله فيها كمعرفته بمنزله في الدنيا‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون القول بعد الدخول مبالغة في التبشير والتكريم، وحديث عبد الله بن سلام المذكور أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد وصححه الحاكم‏.‏

*3*باب مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من نوقش الحساب عذب‏)‏ هو من النقش وهو استخراج الشوكة وتقدم بيانه في الجهاد؛ والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة والمطالبة بالجليل والحقير وترك المسامحة، يقال انتقشت منه حقي أي استقصيته‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ قَالَتْ قُلْتُ أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا قَالَ ذَلِكِ الْعَرْضُ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ وَأَيُّوبُ وَصَالِحُ بْنُ رُسْتُمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن ابن أبي مليكة عن عائشة‏)‏ قال الدار قطني‏:‏ رواه حاتم بن أبي صغيرة عن عبد الله ابن أبي مليكة فقال ‏"‏ حدثني القاسم بن محمد حدثتني عائشة ‏"‏ وقوله أصح لأنه زاد، وهو حافظ متقن‏.‏

وتعقبه النووي وغيره بأنه محمول على أنه سمع من عائشة وسمعه من القاسم عن عائشة فحدث به على الوجهين‏.‏

قلت‏:‏ وهذا مجرد احتمال، وقد وقع التصريح بسماع ابن أبي مليكة له عن عائشة في بعض طرقه كما في السند الثاني من هذا الباب فانتفى التعليل بإسقاط رجل من السند، وتعين الحمل على أنه سمع من القاسم عن عائشة ثم سمعه من عائشة بغير واسطة أو بالعكس، والسر فيه أن في روايته بالواسطة ما ليس في روايته بغير واسطة وإن كان مؤداهما واحدا، وهذا هو المعتمد بحمد الله‏.‏

قوله ‏(‏عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية عبد بن حميد عن عبد الله بن موسى شيخ البخاري فيه ‏"‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قالت قلت أليس يقول الله تعالى فسوف يحاسب‏)‏ في رواية عبد ‏"‏ قلت يا رسول الله إن الله يقول ‏(‏فأما من أوتي كتابه بيمينه - إلى قوله - حسابا يسيرا‏)‏ ‏"‏ ولأحمد من وجه آخر عن عائشة ‏"‏ سعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته‏:‏ اللهم حاسبني حسابا يسيرا، فلما انصرف قلت‏:‏ يا رسول الله ما الحساب اليسير‏؟‏ قال‏:‏ أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه؛ إن من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك ‏"‏ قوله في السند الثاني ‏(‏مثله‏)‏ تقدم في تفسير سورة انشقت بهذا السند ولم يسق لفظه أيضا، وأورده الإسماعيلي من رواية أبكر بن خلاد عن يحيى بن سعيد فقال مثل حديث عبيد الله بن موسى سواء‏.‏

قوله ‏(‏تابعه ابن جريح ومحمد بن سليم وأيوب وصالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة‏)‏ قلت متابعة ابن جريح ومحمد بن سليم وصلهما أبو عوانة في صحيحه من طريق أبي عاصم عن ابن جريج وعثمان بن الأسود ومحمد بن سليم كلهم عن ابن أبي مليكة عن عائشة به‏.‏

‏(‏تنبيهان‏)‏ ‏:‏ أحدهما اختلف على ابن جريح في سند هذا الحديث، فأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى عن ابن جريج عن عطاء عن عائشة مختصرا ولفظه ‏"‏ من حوسب يوم القيامة عذب‏"‏‏.‏

ثانيهما محمد بن سليم هذا جزم أبو علي الجياني بأنه أبو عثمان المكي وقال‏:‏ استشهد به البخاري في الرقاق، وفرق بينه وبين محمد بن سليم البصري وهو أبو هلال الراسبي استشهد به البخاري في التعبير، وأما المزي فلم يذكر أبا عثمان في التهذيب بل اقتصر على ذكر أبي هلال وعلم علامة التعليق على اسمه في ترجمة ابن أبي مليكة وهو الذي هنا وعلى محمد بن سيرين وهو الذي في التعبير، والذي يظهر تصويب أبي علي‏.‏

ومحمد بن سليم أبو عثمان المذكور ذكره البخاري في التاريخ فقال‏:‏ يروى عن ابن أبي مليكة وروى عنه وكيع‏.‏

وقال ابن أبي حاتم روى عنه أبو عاصم ونقل عن إسحاق ابن منصور عن يحيى بن معين قال هو ثقة‏.‏

وقال أبو حاتم صالح، وذكره ابن حبان في الطبقة الثالثة من الثقات‏.‏

وأما متابعة أيوب فوصلها المؤلف في التفسير من رواية حماد بن زيد عن أيوب ولم يسق لفظه، وأخرجه أبو عوانة في صحيحه عن إسماعيل القاضي عن سليمان شيخ البخاري فيه ولفظه ‏"‏ من حوسب عذب‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فقلت يا رسول الله فأين قول الله تعالى ‏(‏فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا‏)‏ قال‏:‏ ذاك العرض، ولكنه من نوقش الحساب عذب ‏"‏ وأخرجه من طريق همام عن أيوب بلفظ ‏"‏ من نوقش عذب فقالت كأنها تخاصمه فذكر نحوه وزاد في آخره‏:‏ قالها ثلاث مرات ‏"‏ وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن حماد بلفظ ‏"‏ ذاكم العرض ‏"‏ بزيادة ميم الجماعة‏.‏

وأما متابعة صالح بن رستم بضم الراء وسكون المهملة وضم المثناة وهو أبو عامر الحزاز بمعجمات مشهور بكنيته أكثر من اسمه فوصلها إسحاق بن راهويه في مسنده، عن النضر بن شميل عن أبي عامر الخزاز، ووقعت لنا بعلو في ‏"‏ المحامليات ‏"‏ وفي لفظه زيادة ‏"‏ قال عن عائشة قالت قلت إني لأعلم أي آية في القرآن أشد، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ وما هي‏؟‏ قلت ‏(‏من يعمل سوءا يجز به‏)‏ فقال‏:‏ إن المؤمن يجازى بأسوأ عمله في الدنيا يصيبه المرض حتى النكبة، ولكن من نوقش الحساب يعذبه‏.‏

قالت قلت‏:‏ أليس قال الله تعالى ‏"‏ فذكر مثل حديث إسماعيل بن إسحاق‏.‏

وأخرجه الطبري وأبو عوانة وابن مردويه من عدة طرق عن أبي عامر الخزاز نحوه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا عُذِّبَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حاتم بن أبي صغيرة‏)‏ بفتح المهملة كسر الغين المعجمة وكنية حاتم أبو يونس واسم أبي صغيرة مسلم وقد قيل إنه زوج أم أبي يونس وقيل جده لأمه‏.‏

قوله ‏(‏ليس احد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، ثم قال أخيرا‏:‏ وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب‏)‏ وكلاهما يرجعان إلى معنى واحد لأن المراد بالمحاسبة تحرير الحساب فيستلزم المناقشة ومن عذب فقد هلك‏.‏

وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ قوله ‏"‏ حوسب ‏"‏ أي حساب استقصاء وقوله ‏"‏ عذب ‏"‏ أي في النار جزاء على السيئات التي أظهرها حسابه، وقوله ‏"‏هلك ‏"‏ أي بالعذاب في النار‏.‏

قال‏:‏ وتمسكت عائشة بظاهر لفظ الحساب لأنه يتناول القليل والكثير‏.‏

قوله ‏(‏يناقش الحساب‏)‏ بالنصب على نزع الخافض والتقدير يناقش في الحساب‏.‏

قوله ‏(‏أليس قد قال الله تعالى‏)‏ تقدم في تفسير سورة انشقت من رواية يحيى القطان عن أبي يونس بلفظ ‏"‏ فقلت يا رسول الله جعلني الله فداءك أليس يقول الله تعالى‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إنما ذلك العرض‏)‏ في رواية القطان ‏"‏ قال ذاك العرض تعرضون ومن نوقش الحساب هلك ‏"‏ وأخرج الترمذي لهذا الحديث شاهدا من رواية همام عن قتادة عن أنس رفعه ‏"‏ من حوسب عذب ‏"‏ وقاله غريب‏.‏

قلت‏:‏ والراوي له عن همام على بن أبي بكر صدوق وربما أخطأ، قال القرطبي‏:‏ معنى قوله ‏"‏ إنما ذلك العرض ‏"‏ أن الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه حتى يعرف منة الله عليه في سترها عليه في الدنيا وفي عفوه عنها في الآخرة كما في حديث ابن عمر في النجوى، قال عياض‏:‏ قوله ‏"‏ عذب ‏"‏ له معنيان أحدهما أن نفس مناقشه الحساب وعرض الذنوب والتوقيف على قبيح ما سلف والتوبيخ تعذيب، والثاني أنه يفضي إلى استحقاق العذاب إذ لا حسنة للعبد إلا من عند الله لإقداره عليها وتفضيله عليه بها وهدايته لها ولأن الخالص لوجهه قليل، ويؤيد هذا الثاني قوله في الرواية الأخرى ‏"‏ هلك ‏"‏ وقال النووي‏:‏ التأويل الثاني هو الصحيح لأن التقصير غالب على الناس، فمن استقصى عليه ولم يسامح هلك‏.‏

وقال غيره‏:‏ وجه المعارضة أن لفظ الحديث عام في تعذيب كل من حوسب ولفظ الآية دال على أن بعضهم لا يعذب؛ وطريق الجمع أن المراد بالحساب في الآية العرض وهو إبراز الأعمال وإظهارها فيعرف صاحبها بذنوبه ثم يتجاوز عنه، ويؤيده ما وقع عند البزار والطبري من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير ‏"‏ سمعت عائشة تقول‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحساب اليسير قال‏:‏ الرجل تعرض عليه ذنوبه ثم يتجاوز له عنها ‏"‏ وفي حديث أبي ذر عند مسلم ‏"‏ يؤتي بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه ‏"‏ الحديث وفي حديث جابر عند ابن أبي حاتم والحاكم ‏"‏ من زادت حسناته على سيئاته فذاك الذي يدخل الجنة بغير حساب‏.‏

ومن استوت حسناته وسيئاته فذاك الذي يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته فذاك الذي أوبق نفسه وإنما الشفاعة في مثله ‏"‏ ويدخل في هذا حديث ابن عمر في النجوى وقد أخرجه المصنف في كتاب المظالم وفي تفسير سورة هود وفي التوحيد وفيه ‏"‏ ويدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول‏:‏ أعملت كذا وكذا‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم فيقرره‏.‏

ثم يقول‏:‏ إني سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ‏"‏ وجاء في كيفية العرض ما أخرجه الترمذي من رواية على بن على الرفاعي عن الحسن عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ تعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات‏:‏ فأما عرضتان فجدال ومعاذير وعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ لا يصح لأن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن على بن على الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى انتهى، وهو عند ابن ماجه وأحمد من هذا الوجه مرفوعا، وأخرجه البيهقي في البعث بسند حسن عن عبد الله بن مسعود موقوفا، قال الترمذي الحكيم‏:‏ الجدال للكفار يجادلون لأنهم لا يعرفون ربهم فيظنون أنهم إذا جادلوا نجوا، والمعاذير اعتذار الله لآدم وأنبيائه بإقامته الحجة على أعدائه، والثالثة للمؤمنين وهو العرض الأكبر‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في رواية لابن مردويه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا ‏"‏ لا يحاسب رجل يوم القيامة إلا دخل الجنة ‏"‏ وظاهره يعارض حديثها المذكور في الباب، وطريق الجمع بينهما أن الحديثين معا في حق المؤمن، ولا منافاة بين التعذيب ودخول الجنة لأن الموحد وإن قضى عليه بالتعذيب فإنه لا بد أن يخرج من النار بالشفاعة أو بعموم الرحمة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ

الشرح‏:‏

حديث أنس ‏"‏ يجاء بالكافر ‏"‏ ذكره من رواية هشام الدستوائي ومن رواية سعيد وهو ابن أبي عروبة كلاهما عن قتادة وساقه بلفظ سعيد، وأما لفظ هشام فأخرجه مسلم والإسماعيلي من طرق عن معاذ بن هشام عن أبيه بلفظ ‏"‏ يقال للكافر ‏"‏ والباقي مثله وهو بضم أول يجاء ويقال، وسيأتي بعد باب في ‏"‏ باب صفة الجنة والنار ‏"‏ من رواية أبي عمران الجوني عن أنس التصريح بأن الله سبحانه هو الذي يقول له ذلك ولفظه ‏"‏ يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة‏:‏ لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدى به‏؟‏ فيقول نعم ‏"‏ ورواه مسلم والنسائي من طريق ثابت عن أنس، وظاهر سياقه أن ذلك يقع للكافر بعد أن يدخل النار ولفظه ‏"‏ يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك‏؟‏ فيقول‏:‏ شر مضجع، فيقال له‏:‏ هل تفتدي بقراب الأرض ذهبا‏؟‏ فيقول نعم يا رب، فيقال له كذبت ‏"‏ ويحتمل أن يراد بالمضجع هنا مضجعه في القبر فيلتئم مع الروايات الأخرى‏.‏

قوله ‏(‏فيقال له‏)‏ زاد مسلم في رواية سعيد كذبت‏.‏

قوله ‏(‏فد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك‏)‏ في رواية أبي عمران فيقول ‏"‏ أردت منك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم‏:‏ أن لا تشرك شيئا، فأبيت إلا أن تشرك بي ‏"‏ وفي رواية ثابت ‏"‏ قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل فيؤمر به إلى النار ‏"‏ قال عياض‏:‏ يشير بذلك إلى قوله تعالى ‏(‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم‏)‏ الآية فهذا الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم، فمن وفى به بعد وجوده في الدنيا فهو مؤمن، ومن لم يوف به فهو الكافر، فمراد الحديث أردت منك حين أخذت الميثاق فأبيت إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشرك، ويحتمل أن يكون المراد بالإرادة هنا الطلب والمعنى أمرتك فلم تفعل، لأنه سبحانه وتعالى لا يكون في ملكه إلا ما يريد‏.‏

واعترض بعض المعتزلة بأنه كيف يصح أن يأمر بما لا يريد‏؟‏ والجواب أن ذلك ليس بممتنع ولا مستحيل‏.‏

وقال المازري‏:‏ مذهب أهل السنة أن الله تعالى أراد إيمان المؤمن وكفر الكافر، ولو أراد من الكافر الإيمان لآمن، يعني لو قدره عليه لوقع‏.‏

وقال أهل الاعتزال‏:‏ بل أراد من الجميع الإيمان فأجاب المؤمن وامتنع الكافر، فحملوا الغائب على الشاهد لأنهم رأوا أن مريد الشر شرير والكفر شر فلا يصح أن يريده الباري‏.‏

وأجاب أهل السنة عن ذلك بأن الشر شر في حق المخلوقين، وأما في حق الخالق فإنه يفعل ما يشاء، وإنما كانت إرادة الشر شرا لنهي الله عنه، والباري سبحانه ليس فوقه أحد يأمره فلا يصح أن تقاس إرادته على إرادة المخلوقين، وأيضا فالمريد لفعل ما إذا لم يحصل ما أراده آذن ذلك بعجزه وضعفه والباري تعالى لا يوصف بالعجز والضعف فلو أراد الإيمان من الكافر ولم يؤمن لآذن ذلك بعجز وضعف، تعالى الله عن ذلك‏.‏

وقد تمسك بعضهم بهذا الحديث المتفق على صحته، والجواب عنه ما تقدم، واحتجوا أيضا بقوله تعالى ‏(‏ولا يرضى لعباده الكفر‏)‏ وأجيبوا بأنه من العام المخصوص بمن قضى الله له الإيمان، فعباده على هذا الملائكة ومؤمنو الإنس والجن وقال آخرون‏:‏ الإرادة معنى الرضا، ومعنى قوله ‏(‏ولا يرضى‏)‏ أي لا يشكره لهم ولا يثيبهم عليه، فعلى هذا فهي صفة فعل‏.‏

وقيل معنى الرضا أنه لا يرضاه دينا مشروعا لهم، وقيل الرضا صفة وراء الإرادة، وقيل الإرادة تطلق بإزاء شيئين إرادة تقدير وإرادة رضا، والثانية أخص من الأولى والله أعلم‏.‏

وقيل‏:‏ الرضا من الله إرادة الخير كما أن السخط إرادة الشر‏.‏

وقال النووي‏:‏ قوله ‏"‏ فيقال له كذبت ‏"‏ معناه لو رددناك إلى الدنيا لما افتديت لأنك سئلت أيسر من ذلك فأبيت، ويكون من معنى قوله تعالى ‏(‏ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون‏)‏ وبهذا يجتمع معنى هذا الحديث مع قوله تعالى ‏(‏لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به‏)‏ ‏.‏

قال‏:‏ وفي الحديث من الفوائد جواز قول الإنسان يقول الله خلافا لمن كره ذلك‏.‏

وقال‏:‏ إنما يجوز قال الله تعالى وهو قول شاذ مخالف لأقوال العلماء من السلف والخلف، وقد تظاهرت به الأحاديث‏.‏

وقال الله تعالى ‏(‏والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏)‏ ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي خَيْثَمَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ ثُمَّ يَنْظُرُ فَلَا يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ قَالَ الْأَعْمَشُ حَدَّثَنِي عَمْرٌو عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقُوا النَّارَ ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثُمَّ قَالَ اتَّقُوا النَّارَ ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلَاثًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ قَالَ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثني خيثمة‏)‏ بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها مثلثة هو ابن عبد الرحمن الجعفي‏.‏

قوله ‏(‏عن عدي بن حاتم‏)‏ هو الطائي‏.‏

قوله ‏(‏ما منكم من أحد‏)‏ ظاهر الخطاب للصحابة، ويلتحق بهم المؤمنون كلهم سابقهم ومقصرهم أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة‏.‏

قوله ‏(‏إلا سيكلمه الله‏)‏ في رواية وكيع عن الأعمش عنه ابن ماجه ‏"‏ سيكلمه ربه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ليس بينه وبينه ترجمان‏)‏ لم يذكر في هذه الرواية ما يقول وبينه في رواية محل بن خليفة عن عدي بن حاتم في الزكاة بلفظ ‏"‏ ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له‏.‏

ثم ليقولن له‏:‏ ألم أوتك مالا‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى ‏"‏ الحديث والترجمان تقدم ضبطه في بدء الوحي في شرح قصه هرقل‏.‏

قوله ‏(‏ثم ينظر فلا يرى قدامه‏)‏ بضم القاف وتشديد الدال أي أمامه ووقع في رواية عيسى بن يونس عن الأعمش في التوحيد وعند مسلم بلفظ ‏"‏ فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدمه، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم ‏"‏ وأخرجه الترمذي من رواية أبي معاوية بلفظ ‏"‏ فلا يرى شيئا إلا شيئا قدمه ‏"‏ وفي رواية محل بن خليفة ‏"‏ فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، وينظر عن شماله فلا يرى إلا النار ‏"‏ وهذه الرواية مختصرة ورواية خيثمة مفسرة فهي المعتمدة في ذلك، وقوله أيمن وأشأم بالنصب فيهما على الظرفية والمراد بهما اليمين والشمال، قال ابن هبيرة‏:‏ نظر اليمين والشمال هنا كالمثل لأن الإنسان من شأنه إذا دهمه أمر أن يلتفت يمينا وشمالا يطلب الغوث‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون سبب الالتفات أنه يترجى أن يجد طريقا يذهب فيها ليحصل له النجاة من النار فلا يرى إلا ما يفضي به إلى النار كما وقع في رواية محل بن خليفة‏.‏

قوله ‏(‏ثم ينظر بين يديه فتسقبله النار‏)‏ في رواية عيسى ‏"‏ وينظر بين يده فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه ‏"‏ وفي رواية أبي معاوية ‏"‏ ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار ‏"‏ قال ابن هبيرة‏:‏ والسبب في ذلك أن النار تكون في ممره فلا يمكنه أن يجيد عنها إذ لا بد له من المرور على الصراط‏.‏

قوله ‏(‏فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة‏)‏ زاد وكيع في روايته ‏"‏ فليفعل ‏"‏ وفي رواية أبي معاوية ‏"‏ أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل ‏"‏ وفي رواية عيسى ‏"‏ فاتقوا النار ولو بشق تمرة ‏"‏ أي اجعلوا بينكم وبينها وقاية من الصدقة وعمل البر ولو بشيء يسير‏.‏

قوله ‏(‏قال الأعمش‏)‏ هو موصول بالسند المذكور، وقد أخرجه مسلم من رواية معاوية عن الأعمش كذلك، وبين عيسى بن يونس في روايته أن القدر الذي زاده عمرو بن مرة للأعمش في حديثه عن خيثمة قوله في آخره ‏"‏ فمن لم يجد فبكلمة طيبة ‏"‏ وقد مضى الحديث بأتم سياقا من هذا في رواية محل بن خليفة في الزكاة‏.‏

قوله ‏(‏حدثني عمرو‏)‏ هو ابن مرة وصرح به رواية عيسى بن يونس‏.‏

قوله ‏(‏اتقوا النار ثم أعرض وأشاح‏)‏ بشين معجمة وحاء مهملة أي أظهر الحذر منها، وقال الخليلي‏:‏ أشاح بوجهه عن الشيء نحاه عنه‏.‏

وقال الفراء المشيح الحذر والجاد في الأمر والمقبل في خطابه، فيصح أحد هذه المعاني أو كلها أي حذر النار كأنه ينظر إليها أو جد على الوصية باتقائها أو أقبل على أصحابه في خطابه بعد أن أعرض عن النار لما ذكرها، وحكى ابن التين أن معنى أشاح صد وانكمش، وقيل صرف وجهه كالخائف أن تناله‏.‏

قلت‏:‏ والأول أوجه لأنه قد حصل من قوله أعرض، ووقع في رواية أبي معاوية في أوله ‏"‏ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النار فأعرض وأشاح ثم قال اتقوا النار‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ثلاثا‏)‏ في رواية أبي معاوية ‏"‏ ثم قال اتقوا النار، وأعرض وأشاح حتى ظننا أنه كان ينظر إليها ‏"‏ وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية جرير عن الأعمش، قال ابن هبيرة وابن أبي جمرة في حديث إن الله يكلم عباده المؤمنين في الدار الآخرة بغير واسطة‏:‏ وفيه الحث على الصدقة‏.‏

قال ابن أبي جمرة‏:‏ وفيه دليل على قبول الصدقة ولو قلت، وقد قيدت في الحديث بالكسب الطيب‏.‏

وفيه إشارة إلى ترك احتقار القليل من الصدقة وغيرها‏.‏

وفيه حجة لأهل الزهد حيث قالوا الملتفت هالك يؤخذ من أن نظر المذكور عن يمينه وعن شماله فيه صورة الالتفات فلذا لما نظر أمامه استقبلته النار، وفيه دليل على قرب النار من أهل الموقف، وقد أخرج البيهقي في البعث من مرسل عبد الله بن باباه بسند رجاله ثقات رفعه ‏"‏ كأني أراكم بالكوم جثى من دون جهنم ‏"‏ وقوله ‏"‏ جثى ‏"‏ بضم الجيم بعدها مثلثة مقصور جمع جاث، والكوم بفتح الكاف الواو الساكنة المكان العالي الذي تكون عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في حديث كعب بن مالك عند مسلم أنهم يكونون يوم القيامة على تل عال، وفيه أن احتجاب الله عن عباده ليس بحائل حسي بل بأمر معنوي يتعلق بقدرته، يؤخذ من قوله ثم ينظر فلا يرى قدامه شيئا‏.‏

وقال ابن هبيرة المراد بالكلمة الطيبة هنا يدل على هدى أو يرد عن ردى أو يصلح بين اثنين أو يفصل بين متنازعين أول يحل مشكلا أو يكشف غامضا أو يدفع ثائرا أو يسكن غضبا، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏